فصل: من فوائد ابن عرفة في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

وقوله: {أتحدثونهم} استفهام للإنكار أو التقرير أو التوبيخ بقرينة أن المقام دل على أنهم جرى بينهم حديث في ما ينزل من القرآن فاضحًا لأحوال أسلافهم ومثالب سيرتهم مع أنبيائهم وشريعتهم.
والظاهر عندي أن معناه أنهم لما سمعوا من القرآن ما فيه فضيحة أحوالهم وذكر ما لا يعلمه إلا خاصتهم ظنوا أن ذلك خلص للنبيء من بعض الذين أظهروا الإيمان من أتباعهم وأن نفاقهم كان قد بلغ بهم إلى أن أخبروا المسلمين ببعض قصص قومهم سترًا لكفرهم الباطن فوبخوهم على ذلك توبيخ إنكار أي كيف يبلغ بكم النفاق إلى هذا وأن في بعض إظهار المودة للمسلمين كفاية على حد قول المثل الذي حكاه بشار بقوله:
واسعدْ بما قال في الحلم ابنُ ذي يَزَن ** يَلْهُو الكِرام ولا يَنْسَوْن أحسابا

فحكى الله ذلك عنهم حكاية لحيرتهم واضطراب أمرهم لأنهم كانوا يرسلون نفرًا من قومهم جواسيس على النبيء والمسلمين يظهرون الإسلام ويبطنون اليهودية ثم اتهموهم بخرق الرأي وسوء التدبير وأنهم دهبوا يتجسسون فكشفوا أحوال قومهم، ويدل لهذا عندي قوله تعالى بعد: {أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون} وأخبار مروية عن بعض التابعين بأسانيد لبيان المتحدث به، فعن السدي كان بعض اليهود يحدث المسلمين بما عذب به أسلافهم، وعن أبي العالية قال بعض المنافقين: إن النبيء مذكور في التوراة، وعن ابن زيد كانوا يخبرون عن بعض قصص التوراة.
والمراد {بما فتح الله} إما ما قضى الله به من الأحوال والمصائب فإن الفتح بمعنى القضاء وعليه قوله تعالى: {ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق} [الأعراف: 89] والفتاح القاضي بلغة اليمن، وإما بمعنى البيان والتعليم، ومنه الفتح على الإمام في الصلاة بإظهار الآية له وهو كناية مشهورة لأن القضاء يستلزم بيان الحق، ومنه قوله تعالى: {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا} [البقرة: 89] أي يسألونهم العلم بالأمور التشريعية على أحد وجهين، فالمعنى بما علمكم الله من الدين.
وقوله: {ليحاجوكم به عند ربكم} صيغة المفاعلة غير مقصود بها حصول الفعل من جانبين بل هي لتأكيد الاحتجاج أي ليحتجوا عليكم به أي بما فتح الله عليكم.
واللام في قوله تعالى: {ليحاجوكم} لام التعليل لكنها مستعملة في التعقيب مجازًا أو ترشيحًا لاستعمال الاستفهام في الإنكار أو التقرير مجازًا فإنه لما كان الاستفهام الموضوع لطلب العلم استعمل هنا في الإنكار أو التقرير مجازًا لأن طلب العلم يستلزم الإقرار والمقرر عليه يقتضي الإنكار لأن المقر به مما ينكر بداهة وكانت المحاجة به عند الله فرعًا عن التحديث بما فتح الله عليهم جعل فرع وقوع التحديث المنكر كأنه علة مسئول عنها أي لكان فعلكم هذا معللًا بأن يحاجوكم، وهو غاية في الإنكار إذ كيف يسعى أحد في إيجاد شيء تقوم به عليه الحجة فالقرينة هي كون المقام للإنكار لا للاستفهام ولذلك كانت اللام ترشيحًا متميزًا به أيضًا.
والأظهر أن قوله: {عند ربكم} ظرف على بابه مراد منه عندية التحاكم المناسب لقوله: {يحاجوكم} وذلك يوم القيامة لا محالة أي يجعلون ذلك حجة عليكم أمام الله على صدق رسولهم وعلى تبعتكم في عدم الإيمان به وذلك جار على حكاية حال عقيدة اليهود من تشبيههم الرب سبحانه وتعالى بحكام البشر في تمشي الحيل عليه وفي أنه إنما يأخذ المسببات من أسبابها الظاهرية فلذلك كانوا يرتكبون التحيل في شرعهم وتجد كتبهم ملأى بما يدل على أن الله ظهر له كذا وعلم أن الأمر الفلاني كان على خلاف المظنون وكقولهم في سفر التكوين وقال الرب هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا يعرف الخير والشر.
وقال فيه: ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض وتأسف في قلبه فقال: أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته.
وجاء في التكوين أيضًا: لما شاخ إسحاق وكلت عيناه عن النظر دعا ابنه الأكبر عيسو وقال له: إني شخت ولست أعرف يوم وفاتي فالآن خذ عدتك وأخرج إلى البرية فتصيد لي صيدًا واصنع لي أطعمة حتى أباركك قبل أن أموت فسمعت رفقة أمهما ذلك فكلمت ابنها يعقوب وقالت: اذهب إلى الغنم وخذ جديين جيدين من المعزى فاصنعهما أطعمة لأبيك حتى يباركك قبل وفاته فقال: يعقوب لأمه إن عيسو أخي رجل أشعر وأنا رجل أملس ربما يجسني أبي فأكون في عينيه كمتهاون وأجلب على نفسي لعنة فقالت: اسمع لقولي فذهب وصنعت له أمه الطعام وأخذت ثياب ابنها الأكبر عيسو وألبستها يعقوب وألبست يديه وملاسة عنقه جلود الجديين فدخل يعقوب إلى أبيه وقال: يا أبي أنا ابنك الأكبر قد فعلت كما كلمتني فجسه إسحاق وقال الصوت صوت يعقوب ولكن اليدين يدا عيسو فباركه أي جعله نبيئًا وجاء عيسو وكلم أباه وعلم الحيلة ثم قال لأبيه: باركني أنا فقال قد جاء أخوك بكرة وأخذ بركتك إلخ فما ظنك بقوم هذه مبالغ عقائدهم أن لا يقولوا لا تعلموهم لئلا يحاجوكم عند الله يوم القيامة وبهذا يندفع استبعاد البيضاوي وغيره أن يكون المراد بعند ربكم يوم القيامة بأن إخفاء الحقائق يوم القيامة لا يفيد من يحاوله حتى سلكوا في تأويل معنى قوله: {عند ربكم} مسالك في غاية التكلف قياسًا منهم لحال اليهود على حال عقائد الإسلام ففسروا عند بمعنى الكتاب أو على حذف مضاف أو حذف موصول ثم سلك متعقبوهم في إعرابه غاية الإغراب. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} ففيه وجوه:
أحدها: أنه يرجع إلى المؤمنين فكأنه تعالى قال: أفلا تعقلون لما ذكرته لكم من صفتهم أن الأمر لا مطمع لكم في إيمانهم.
وهو قول الحسن.
وثانيها: أنه راجع إليهم فكأن عند ما خلا بعضهم ببعض قالوا لهم أتحدثونهم بما يرجع وباله عليكم وتصيرون محجوجين به، أفلا تعقلون أن ذلك لا يليق بما أنتم عليه.
وهذا الوجه أظهر لأنه من تمام الحكاية عنهم فلا وجه لصرفه عنهم إلى غيرهم. اهـ.

.قال الألوسي:

{أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} عطف إما على {أَتُحَدّثُونَهُم} والفاء لإفادة ترتب عدم عقلهم على تحديثهم، وإما على مقدر أي ألا تتأملون فلا تعقلون، والجملة مؤكدة لإنكار التحديث، وهو من تمام كلام اللائمين، ومفعوله إما ما ذكر أولًا، أو لا: مفعول له وهو أبلغ وقيل: هو خطاب من الله تعالى للمؤمنين متصل بقوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ} [البقرة: 5 7] والمعنى: أفلا تعقلون حال هؤلاء اليهود وأن لا مطمع في إيمانهم، وهم على هذه الصفات الذميمة والأخلاق القبيحة. اهـ.

.قال الطبري:

وقوله: {أفلا تعقلون}، خبر من الله تعالى ذكره- عن اليهود اللائمين إخوانهم على ما أخبروا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فتح الله لهم عليهم- أنهم قالوا لهم: أفلا تفقهون أيها القوم وتعقلون، أن إخباركم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بما في كتبكم أنه نبي مبعوث، حجة لهم عليكم عند ربكم، يحتجون بها عليكم؟ أي: فلا تفعلوا ذلك، ولا تقولوا لهم مثل ما قلتم، ولا تخبروهم بمثل ما أخبرتموهم به من ذلك. فقال جل ثناؤه: {أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون}. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {أفلا تعقلون} من بقية مقولهم لقومهم ولا يصح جعله خطابًا من الله للمسلمين تذييلًا لقوله: {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم} [البقرة: 75] لأن المسلمين وفيهم الرسول صلى الله عليه وسلم ليسوا جديرين بمثل هذا التوبيخ وحسبهم ما تضمنه الاستفهام من الاستغراب أو النهي.
فإن قلت: لم لم يذكر في الآية جواب المخاطبين بالتبرؤ من أن يكونوا حدثوا المؤمنين بما فتح الله عليهم كما ذكر في قوله المتقدم: {وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤن}؟
قلت: ليس القرآن بصدد حكاية مجادلاتهم وأحوالهم فإنها أقل من ذلك وإنما يحكي منها ما فيه شناعة حالهم وسوء سلوكهم ودوام إصرارهم وانحطاط أخلاقهم فتبريهم مما نسب إليه كبراؤهم من التهمة معلوم، للقطع بأنهم لم يحدثوا المسلمين بشيء ولما دل عليه قوله الآتي {أولا يعلمون أن الله يعلم} إلخ.
وأما ما في الآية المتقدمة من تنصلهم بقولهم: {إنا معكم} فلأن فيه التسجيل عليهم في قولهم فيه: {إنما نحن مستهزئون}. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُواْ الذين ءَامَنُواْ}.
عبر ب {إذا} مع أنهم يكرهون لقاء المؤمنين لوجهين: إما لعلم الله تعالى أنهم لابد لهم من لقائهم، وإما لأنّ النبي عليه السلام مأمور بتبليغ الوحي لهم ولغيرهم فلابد لهم من لقائه، وإنما قال: {وَإِذَا لَقُواْ} ولم يقل وإذا أتوا، إشارة إلى أن لقاءهم للمؤمنين إنما يكون فجأة غير مقصود ومن خبثهم أنّهم {قالوا ءَامَنَّا} من غير تأكيد نزّلوا أنفسهم منزلة البريء الغير متّهم، ولم يذكروا بمن آمنوا حتى يبقى الكلام مطلقا يفهمه المخاطب على شيء، ويقصد به المتكلم شيئا آخر.
قوله تعالى: {قالوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ}.
قال ابن عرفة: هذا من رؤسائهم المنكرين عليهم قصور الإنكار والمناسب لحالهم المبالغة في الإنكار عليهم لأنهم ما أنكروا عليهم إلا التحدث الموجب للحاجة فمفهومه أنهم أباحوا لهم مطلق الحديث مع المؤمنين لكن يبقى النظر هل اللام في {لِيُحَآجُّوكُم} تعليل للحديث أو للإنكار؟ وهل اللام سابقة على الهمزة، ثم دخلت الهمزة على الحديث لأجل المصاحبة فأنكرته بعلته أو الهمزة سابقة فدخل التعليل بعدها فكان علة الإنكار؟ وهل قبل حديثهم لأجل المحاججة هو المنكر أو المراد أن الحديث في الإطلاق وأنكر خوف المحاجة به؟
وجعل أبو حيان اللام في {لِيُحَآجُّوكُمْ} للصيرورة بناء عنده على أنه تعليل للتحدث وإذا جعلناها للإنكار تبقى اللام على بابها من التعليل الحقيقي ويكون الإنكار بليغا لا قصور فيه بوجه.
قلت: ورده بعضهم بأنه على هذا يكون المعنى لا تحدثوهم بما فتح الله عليكم لئلا يحاجوكم به عند ربكم، فيكون الرؤساء أقروا أن للمؤمنين عليهم حجة بذلك يوم القيامة، وهم إنما غرضهم التمويه على العوام، وتنفيرهم من الإيمان فكيف يقرون لهم بصحة هذا الدين؟
وأعرب الطيبي {عِندَ رَبِّكُمْ} بدلا مما {فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ} لأنه هو.
ورده ابن عرفة: إنما يكون هُوَ إن لَوْ قيل: ليحاجوكم.
قوله تعالى: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}.
إما من كلام الله أو من قول المنكرين، وعلى هذا حمله ابن عطية على العقل التكليفي فقال: العقل علوم ضرورية.
قال ابن عرفة: والصواب أنه العقل النّافع أي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ من أجل هذا. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)}.
هذه صور من صور نفاق اليهود. والناس مقسمون إلى ثلاث: مؤمنون وكافرون ومنافقون.. المؤمن انسجم مع نفسه ومع الكون الذي يعيش فيه.. والكافر انسجم مع نفسه ولم ينسجم مع الكون، والكون يلعنه.. والمنافق لا انسجم مع نفسه ولا انسجم مع الكون، والآية تعطينا صورة من صور النفاق وكيف لا ينسجم المنافق مع نفسه ولا مع الكون.. فهو يقول ما لا يؤمن به.. وفي داخل نفسه يؤمن بما لا يقول. والكون كله يلعنه، وفي الآخرة هو في الدرك الأسفل من النار. وهذه الآية تتشابه مع آية تحدثنا عنها في أول هذه السورة.. وهي قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14].
في الآية الأولى كان الدور لليهود، وكان هناك منافقون من غير اليهود وشياطينهم من اليهود.. وهنا الدور من اليهود والمنافقين من اليهود. الحق سبحانه وتعالى يقول: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا} وهل الإيمان كلام؟.. الإيمان يقين في القلب وليس كلاما باللسان.. والاستدلال على الإيمان بالسلوك فلا يوجد إنسان يسلك سبيل المؤمنين نفاقا أو رياء.. يقول آمنت نفاقا ولكن سلوكه لا يكون سلوك المؤمن.. ولذلك كان سلوكهم هو الذي يفضحهم. يقول تعالى: {وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ}.. وفي سورة أخرى يقول الحق: {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} [آل عمران: 119].
وفي سورة المائدة يقول سبحانه: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَقَدْ دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ} [المائدة: 61].
هنا أربع صور من صور المنافقين.. كلها فيها التظاهر بإيمان كاذب.. في الآية الأولى {وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ} وفي الآية الثانية: {وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ}. وفي الآية الثالثة: {عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ}. وفي الآية الرابعة: {وَقَدْ دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ}.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما بعث كان اليهود يقولون للمؤمنين هذا هو نبيكم موجود عندنا في التوراة أوصافه كذا.. حينئذ كان أحبار اليهود ينهونهم عن ذلك ويقولون لهم: {أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} فكأنهم علموا صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنهم أرادوا أن يخفوها.. إن الغريب أنهم يقولون: {بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ}. وإذا كان هذا فتحا من الله فلا فضل لهم فيه.. ولو أراد الله لهم الفتح لآمنت القلوب.
قوله تعالى: {لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} يدل على أن اليهود المنافقين والكفار وكل خلق الأرض يعلمون أنهم من خلق الله، وأن الله هو الذي خلقهم.
وما داموا يعلمون ذلك فلماذا يكفرون بخالقهم؟ {لِيُحَآجُّوكُم بِهِ} أي لتكون حجتهم عليكم قوية عند الله.. ولكنهم لم يقولوا عند الله بل قالوا {عِنْدَ رَبِّكُمْ} والمحاجة معناها أن يلتقي فريقان لكل منهما وجهة نظر مختلفة. وتقام بينهما مناظرة يدلي فيها كل فريق بحجته. واقرأ قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [البقرة: 258].
هذه هي المناظرة التي حدثت بين إبراهيم عليه السلام والنمرود الذي آتاه الله الملك.. ماذا قال إبراهيم؟{إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258].
هذه كانت حجة إبراهيم في الدعوة إلى الله، فرد عليه النمرود بحجة مزيفة. قال أنا أحيي وأميت.. ثم جاء بواحد من جنوده وقال لحراسه اقتلوه.. فلما اتجهوا إليه قال اتركوه.. ثم التفت إلى إبراهيم: {قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258].
جدل عقيم لأن هذا الذي أمر النمرود بقتله. كان حيا وحياته من الله.. والنمرود حين قال اقتلوه لم يمته ولكن أمر بقتله.. وفرق بين الموت والقتل.. القتل أن تهدم بنية الجسد فتخرج الروح منه لأنه لا يصلح لإقامتها.. والموت أن تخرج الروح من الجسد والبنية سليمة لم تهدم.. الذي يميت هو الله وحده، ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144].
والنمرود لو قتل هذا الرجل ما كان يستطيع أن يعيده إلى الحياة.. ولكن إبراهيم عليه السلام.. لم يكن يريد أن يدخل في مثل هذا الجدل العقيم.. الذي فيه مقارعة الحجة. بالحجة يمكن فيه الجدال ولو زيفا.. ولذلك جاء بالحجة البالغة التي لا يستطيع النمرود أن يجادل فيها: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258].
هذا هو معنى الحاجّة.. كل طرف يأتي بحجته، وما داموا يحاجونكم عند ربكم وهم يعتقدون أن القضية لن تمر أمام الله بسلام لأنه رب الجميع وسينصف المظلوم من الظالم.. إذا كانت هذه هي الحقيقة فهل أنتم تعملون لمصلحة أنفسكم؟ الجواب لا.. لو كنتم تعلمون الصواب ما كنتم وقعتم في هذا الخطأ فهذا ليس فتحا.
وقوله تعالى: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} ختام منطقي للآية.. لأن من يتصرف تصرفهم ويقول كلامهم لا يكون عنده عقل.. الذي يقول: {لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} يكون مؤمنا بأن له ربا، ثم لا يؤمن بهذا الإله ولا يخافه لا يمكن أن يتصف بالعقل. اهـ.